صراع غزة- خلافات إسرائيلية حول "اليوم التالي" وحل الدولتين المضلل

المؤلف: د. محمد الهندي10.30.2025
صراع غزة- خلافات إسرائيلية حول "اليوم التالي" وحل الدولتين المضلل

في اليوم الـ222 للاعتداء الغاشم على غزة، ونتيجة للضربات الموجعة التي وجهتها المقاومة الباسلة خلال الأسبوع المنصرم في رفح والزيتون وجباليا، انفجرت مواجهة سافرة بين وزير الحرب "غالانت" ورئيس وزراء العدو "نتنياهو"، ما كشف عن فجوة عميقة وتخبط جليّ في الاستراتيجية الإسرائيلية المتعلقة بالمرحلة اللاحقة لانتهاء العدوان على غزة.

وفي مؤتمر صحفي عقده يوم الأربعاء الموافق 15 مايو/أيار الجاري، صرح "غالانت" بأنه سيقف بالمرصاد لأي سلطة عسكرية تُفرض على قطاع غزة؛ لما في ذلك من تكلفة باهظة وإراقة للدماء واستنزاف طويل الأمد، مطالباً "نتنياهو" بالإعلان عن عدم نيته السيطرة على غزة، والسعي الدؤوب لإيجاد بديل لحماس لإدارة القطاع، وأردف قائلاً إن استمرار العمليات العسكرية سيؤدي حتماً إلى حكم عسكري على غزة، وتقويض كل ما حققه الجيش من إنجازات في عملياته.

أزمة متفاقمة

لم يتوان "نتنياهو" في الردّ مباشرة، مؤكداً أن الحديث عن اليوم التالي قبل القضاء التام على حركة حماس عسكرياً هو محض هراء، وأن لا طرفاً سيكون على استعداد لتولي زمام الأمور في غزة، قبل أن يتيقن من أن حماس لن تستعيد سيطرتها العسكرية عليها، وأنه ليس على استعداد لاستبدال حكم حماس بحكم فتح في غزة.

بدوره، طالب "بن غفير" "نتنياهو" بإقالة "غالانت" لتحقيق أهداف الحرب المرجوة.

وفي السياق ذاته، صرّح وزير المالية "سيموتريتش" بأن "غالانت" قد أعلن دعمه الصريح لإقامة دولة فلسطينية، وأنه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستقالة أو تطبيق قرارات الحكومة.

من جهته، أكد وزير القضاء "لافين" أن (إسرائيل) لن تسمح بقيام دولة إرهابية في غزة.

إلى ذلك، أعلن الوزير "غانتس" دعمه المطلق لوزير الحرب "غالانت". كما صرح وزير خارجية أمريكا من أوكرانيا بأن الولايات المتحدة لا تؤيد حكم (إسرائيل) لغزة، ولا تدعم حكم حماس أيضاً، وأنه لا يمكن أن يكون هنالك فراغ تملؤه الفوضى، وأن (إسرائيل) بحاجة ماسة إلى خطة واضحة ومُحكمة لليوم التالي في غزة.

في ضوء هذه التطورات، تتضح بجلاء الأزمة العميقة التي تعصف بـ (إسرائيل)، بعد أن اضطر جيشها للعودة إلى القتال في المناطق التي زعم أنها طهرتها من المقاومة منذ أشهر، في جباليا ومدينة غزة، ويتضح أيضاً أن "نتنياهو" – وحلفاءَه في الحكومة – وبعد فشلهم الذريع في إيجاد كيانات بديلة لإدارة غزّة، سواء كانت بدائل أمنية أو عشائرية، أو أن تلعب السلطة دوراً تحت ستار لجان إغاثة محلية، يصرّ على مواصلة الحرب، ويرفض رفضاً قاطعاً أي جهة فلسطينية – باعتبارها عنواناً سياسياً – أن تحكم غزة.

هذا العمق المتزايد للأزمة يعيدنا إلى الحديث المتجدد عما يسمى (حلّ الدولتين) في مختلف مراحل صراعنا المرير مع المشروع الصهيوني، والذي لطالما كان بمثابة مسكّن مؤقت لتهدئة الأوضاع وامتصاص التوترات، ونشر الخداع والتضليل والأوهام؛ لكسب المزيد من الوقت، واستنزاف القوى الحية، وترسيخ جذور الاحتلال على أرض الواقع.

1- إنّ أول اقتراح لتقسيم فلسطين وإنشاء دولتين تضمنه تقرير (لجنة بيل) التي شكلتها بريطانيا عام 1937 للتحقيق في الأسباب الكامنة وراء اندلاع ثورة 36، ثم لجنة (وودهيد) التي شكلتها بريطانيا بدورها عام 1938 لنفس الأسباب. وجاءت توصيات اللجنتين في سياق الالتفاف الماكر على الثورة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في الفترة ما بين (1936م- 1939م).

2- ولا ننسى قرار التقسيم رقْم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947م، والذي عملت الحركة الصهيونية وإدارة الرئيس الأميركي "ترومان" بكل ما أوتيت من قوة من وسائل الترغيب والترهيب لتمريره، على خلفيّة الغضب الفلسطيني العارم بعد إعلان بريطانيا عن نيّتها إنهاء الانتداب على فلسطين، وتخوُّف الفلسطينيين الشديد من تسليم بريطانيا، فلسطينَ للحركة الصهيونية.

3- وبعد نكبة عام 1967م واحتلال القدس، والضفة الغربية، وغزة، والجولان، وسيناء، صدر قرار مجلس الأمن رقْم 242 في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1967م والذي يدعو صراحة إلى الانسحاب من الأراضي التي احتُلت عام 1967م، والاعتراف بـ (إسرائيل) ضمن صيغة (الاعتراف بسيادة واستقلال دول المنطقة)، والدعوة إلى تسوية عادلة لقضيّة اللاجئين.

إغراءات جمة

وقد وافق العرب على هذا القرار الجائر، والذي أُعيد التأكيد عليه في القرار 338 الصادر عن مجلس الأمن إثر حرب عام 1973م، معترفين بذلك بـ (إسرائيل الأولى) على الأراضي الفلسطينيّة المغتصبة عام 1948م، مع إبداء الاستعداد للتّطبيع، وإقامة علاقات سلام واعتراف متبادل.

وقد عبّر العرب فيما بعد عن هذا الاستعداد الصريح بمبادرة الملك فهد التي تطوّرت فيما بعد إلى المبادرة العربيّة للسلام، وتمّ إعلانها في الدورة الـ 14 للقمة العربية في بيروت عام 2002م على أثر فشل قمّة كامب ديفيد في يوليو/تموز 2000م، واندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية.

وعلى الرغم من الإغراءات الكبيرة التي تضمنتها المبادرة العربية والتي تؤكد بجلاء استعداد جميع الدول العربية لإنشاء علاقات طبيعية مع (إسرائيل) في إطار اتفاق سلام شامل، واعتبار النزاع العربي – الإسرائيلي منتهيًا لا رجعة فيه، مع إيجاد حلّ متفق عليه لقضية اللاجئين مقابل دولة فلسطينية في حدود الـ 67، إلا أنّ المبادرة العربية بقيت معلقةً في الهواء دون أي اكتراث إسرائيلي يُذكر، لأكثر من عقدين كاملين حتى سقطت سقوطًا مدويًا نحو هاوية جديدة اسمها اتفاقات (أبراهام) المشؤومة والتي دفعت بأربعة أنظمة عربية للتطبيع والتحالف مع العدو، متجاوزةً بذلك حتى مجرد الإشارة العابرة إلى حلّ قضية فلسطين.

4- "م ت ف" التي رفضت القرارَين 242، و338؛ لأنهما حصرا القضية الفلسطينية بالبعد الإنساني الضيق وأغفلا البعد السياسي والوطني الأوسع، فقد تمّ ممارسة الضغط العسكري الشديد عليها وإخراجها قسراً من بيروت بعد عدوان عام 1982م، لتنسجم بعد ذلك مع الانهيار العربي الرسمي المدوي، وتوافق على القرار 242 عندما أعلنت قيام الدولة الفلسطينيّة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1988م، لتكون هذه الموافقة بمثابة مدخلها الحتمي إلى الاعتراف المتبادل مع (إسرائيل)، وصولًا إلى اتفاق أوسلو المخزي الذي جاء على خلفيّة فشل (إسرائيل) الذريع في إجهاض الانتفاضة الأولى عام 1987م على مدار أكثر من 5 سنوات.

تم توقيع اتفاق أوسلو في سبتمبر/أيلول عام 1993م بعد أيام معدودة من الرسائل المتبادلة بين "م ت ف" و(إسرائيل) والتي تؤكد اعتراف المنظمة بحق (إسرائيل) بالعيش في أمن وسلام، كما تؤكد اعتراف المنظمة بالقرارَين: 242 و338، وهكذا اعترفت المنظمة بـ (إسرائيل الأولى) على الأراضي المغتصبة عام 1948م، وتم إجهاض الانتفاضة المباركة، وترك مصير الأراضي المحتلة عام 1967م للتفاوض العقيم بين "م ت ف" و(إسرائيل).

وبما أن المفاوضات تعكس موازين القوة التي فقدتها المنظمة تمامًا بعد إجهاض الانتفاضة وإدانة المقاومة تحت مسمى نبذ الإرهاب، وفقدان البعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية تحت شعار: (القرار الوطني المستقل)، فقد فتحت أوسلو الباب العربي على مصراعيه أمام (إسرائيل) في اتفاق وادي عربة مع الأردن واتفاقات أبراهام لاحقًا مع أربع دول عربية، في تنكّر سافر للقضيّة الفلسطينيّة، ودون أي ترابط يُذكر مع المسار الفلسطينيّ.

خداع ومراوغة

وعلى أرض الواقع، انتهت أوسلو بعد 30 عامًا من الخداع والمراوغة حول حلّ الدولتين إلى إقامة (إسرائيل الثانية)، دولة للمستوطنين الغاصبين في الضفة الغربية مع جدار فصل عنصري بغيض وأكثر من 700 حاجز عسكري خانق لحصار المدن والتجمعات الفلسطينية في معازل حقيقية، وتكريس كل ما من شأنه أن يمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.

وفي شهر فبراير/شباط من عام 2017م، أعلنت الإدارة الأميركية بكل وقاحة أن إدارة الرئيس "ترامب" لم تعد متمسكةً بحلّ الدولتين أساسًا للتوصل لاتفاق سلام بين (إسرائيل) والفلسطينيين، وفي شهر سبتمبر/أيلول من نفس العام المشؤوم، أعلن الرئيس "ترامب" اعترافه بالقدس عاصمة أبدية لـ (إسرائيل) والبدء الفوري بنقل السفارة الأمريكية إليها.

5- وعلى وقع الهزيمة الإستراتيجية المدوية للعدو الصهيوني (صاعقة طوفان الأقصى)، يعلو الحديث والجدال مجددًا عن حلّ الدولتين المزعوم، ويتم التلويح به بشكل مخادع أمام السلطة الفلسطينية الهزيلة في رام الله، وأمام دول عربية مركزية كانت مرشّحة بقوة للتطبيع الكامل مع العدو.

وعلى الرغم من أن هنالك إجماعًا صهيونيًا راسخًا على رفض قيام دولتين، غربي نهر الأردن، وفي القدس الموحّدة عاصمة أبدية لدولتهم المزعومة، والعدوّ لا يملّ من التكرار على لسان "نتنياهو" بأن اتفاق أوسلو كان خطأ فادحًا لا يجب أن يتكرر على الإطلاق، وأن منح الفلسطينيين أي شكل من أشكال السيادة يمثل خطرًا داهماً على (إسرائيل).

وكذلك الإدارة الأميركية تؤكد في كل مناسبة سانحة أن دولة فلسطينية لا يمكن أن تنشأ إلا عبر مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين و(إسرائيل)، وأن الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية من شأنه أن يمنع أي تسوية سلمية في المستقبل!!، وعلى الرغم من ذلك فإن البعض الفلسطيني والعربي من المهزومين على استعداد تام للانخراط في سياق هذا الخداع المكشوف للالتفاف الخبيث على نتائج "طوفان الأقصى" المبارك.

الهدف المنشود: القضاء على المقاومة

إنّ الأهداف الأميركية – الإسرائيلية المشتركة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهي تصفية القضية الفلسطينية برمتها عن طريق تصفية المقاومة الباسلة، فالمطلوب بوضوح هو رأس المقاومة الشريفة، حتى يكون اليوم التالي يومًا إسرائيليًا خالصًا بامتياز؛ لأن المشروع الصهيوني هو في الأساس مشروع غربي استعماري خبيث يهدف إلى الهيمنة الكاملة والسيطرة المطلقة على المنطقة واستنزاف ثرواتها وخيراتها، ومنع نهضتها واستقلالها الحقيقي، ولا يقيم أي وزن لحقوق ولا يحترم أي اتفاقات أو معاهدات.

ومنذ نشأة العصابات الصهيونية الإرهابية، ومن ثم ما يسمى (دولة إسرائيل) الزائفة وعلى لسان قادتها المجرمين، وفي مناسبات مختلفة، قبلت بمشاريع وقرارات أممية واتفاقات باعتبارها مجرد خطوة مرحلية لكسب المزيد من الوقت، وترسيخ وقائع جديدة على الأرض وإجهاض المقاومة الفلسطينية الشرسة، ومن ثم استكمال السيطرة والتوسع بالقوة الغاشمة وبغطاء ورعاية غربية كاملة، دون أي اعتبار لأي اتفاقات أو مواثيق دولية في دولة لم يتم تحديد حدودها الرسمية منذ ما يسمّى إعلان الاستقلال وحتى يومنا هذا.

في ظل مشروع استعماري – استيطاني بكل تلك الأبعاد الأيديولوجية المتجذرة، والتاريخية العميقة، والسياسية المعقدة، والعسكرية الشرسة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نختصر الصراع المرير بموضوع (دولة فلسطينية) هزيلة، وكأنه صراع على الجغرافيا فحسب، وكأنه صراع محدود بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب. فباسم الدولة الفلسطينية الموعودة تمّ استدراج "م ت ف" إلى البرنامج المرحلي ثم إلى برنامج إقامة السلطة الفلسطينية الهزيلة، وباسم المصالح الوطنية الضيقة، تم استدراج دول عربية عديدة إلى التطبيع والتحالف مع الكيان الصهيوني الغاصب، بعيدًا كل البعد عن الرؤية الإستراتيجية الشاملة للصراع.

إنّ نتيجة هذا الصراع الوجودي ستقرر مصير المنطقة العربية بأكملها بما فيها فلسطين و(إسرائيل) معاً، فلا ينبغي أن يستدرَج أحد للوقوع في فخ خداع حل الدولة أو الدولتين في الوقت الذي يُستهدف فيه رأس المقاومة الشريفة في فلسطين، وفي المنطقة بأسرها؛ حتى يسهل تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية العادلة، واستمرار الهيمنة الوقحة على كل المنطقة، وقمع أي محاولة للنهضة والاستقلال الحقيقيّ.

وبمزيد من التماسك الداخلي المتين في فلسطين والإقليم، والتمسك العميق بالرؤية الإستراتيجية لهذا الصراع في سياقه التاريخي الأصيل، سيجعل ذلك حتماً من اليوم التالي لـ "طوفان الأقصى" المجيد يومًا مشرقاً لفلسطين وللمنطقة العربية ولكلّ أحرار العالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة